ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جَذِيْمة
وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جَذيمة، وكان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلىِ الإسلام ولم يأمرهم بقتال ، وكان بعث خالد بن الوليد داعياً ولم يبعثه مقاتلَا فنزل على الغميصاء ماء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جَذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة عم خالد. كانا أقبلا تاجرين من اليمن فأخذت ما معهما وقتلتهما فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح ، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا. فوضعوا السلاح فأمر خالد بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل (1) فلما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد. ثم أرسل علياً ومعه مال وأمره أنْ ينظر في أمرهم فودي لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة(2) الكلب ، وبقي معه من المال فضلة فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يؤد؟ قالوا :لا. قال: أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال: أصبت وأحسنت ،
قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي:كنت يومئذ في جند خالد فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال:أدركوا أولئك. قال:فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا ووقف لنا غلام شاب على الطريق فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول :
ارفعن أطراف الذيول وارتعن * مشي حييات كأن لم تفزعن * إن تمنع اليوم النساء تمنعن فقاتلناه طويلًا فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن ، فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول :
أقسم ما أن خادر(1) ذو لبده يروم بين أثلة ووهده (2)
يفرس (3) شبان الرجال وحده بأصدق الغداة مني نجده
فقاتلناه حتى قتلناه ، وأدركنا الظعن فأخذناهن فإذا فيهن غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك فربطناه بحبل وقدّمناه لنقتله فقال لنا: هل لكم في خير؟ قلنا ما هو؟ قال:تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلوني ، قلنا:نفعل فعارضنا الظعن ، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادي بأعلى صوته - أسلمي حبيش على فقد العيش - فأقبلت إليه جارية بيضاء حسنة وقالت:وأنت فأسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء. قال:سلام عليك دهراً وإن بقيت عصراً قالت:وأنت سلام عليك عشراً وشفعاً تترى وثلاثاً وتراً(4) فقال:إن يقتلوني با حبيش فلم يدع هواك لهم مني سوى غلة الصدر
فأنت التي أخليت لحمي من دمي وعظمي وأسبلت الدموع على نحري
فقالت له:ونحن بكينا من فراقك مرة وأخرى وواسيناك في العسر واليسر وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى جميل العفاف والمودة في ستر
فقال لها:أرأيتك إن طالبتكم فوجدتكم بحلية أو الفيتكم بالخوانق (1)
ألم يك حقاً أن ينوّل عاشق تكلف أدلاج السرى في الودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى وينأى لأمر بالحبيب المفارق
فإني لآبه بالذي أرعينه ولا منظر مذ غبت عني برائق
عليّ بآيات العشيرة شاغل ولا ذكر إلا ذكر هيمان وامق
فقدموه فضربوا عنقه.
هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية، أنه خرج مع أمه وهو غلام نحو المحتلم لتزور جارة لها وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش ، فلما رآها عبد الله هواها ووقعت في نفسه وأقامت أمه عند جارتها وعاد عبد الله إلى أهله ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحيّ فازداد بها عجباً وانصرفت أمه فمشى معها وهو يقول :
وما أدري بلى إني لأدري أصوب القطر أحسن أم حبيش ؟
حبيشة والذي خلق البرايا وما إن عندنا للصب عيش
فسمعت أمه فتغافلت عنه. ثم إنه رأى ظَبْياً(2) على ربوة فقال :
يا أمنا خبريني غير كاذبة وما يريد سؤول الحق بالكذب
أتلك أحسن أم ظبي برابية؟ لا بل حبيشة في عيني وفي أرب
فزجرته أمه ، وقالت:ما أنت وهذا وأنا قد زوجتك ابنة عمك ، فهي من أجمل النساء؟ وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر، وقالت:زيني ابنتك له ففعلت وأدخلتها
عليه فأطرق ، فقالت أمه:أيهما الآن أحسن ؟ فقال :
إذا غيبت عني حبيشة مرة من الدهر لا أملك عزاءً ولا صبرا
كأن الحشا حر السعير تحثه وقود الغضا والقلب مضطرم الجمرا
وجعل يراسل الجارية وتراسله فعلقته كما علقها وأكثر قول الشعر فيها، فمن ذلك :
حبيشة جدي ثم جدك جامع بشملكم شملي وأهلكم
أهلي وهل أنا متلف بثوبك مرة؟ بصحراء بين الألبتين (1) إلى النحل
فلما علم أهلها خبرهما حجبوها عنه فازداد غرامه. فقالوا لها:عِدِيه السرحة فإذا أتاك فقولي له:نشدتك الله إنْ أحببتني فوالله ما على الأرض أبغض إليّ منك ، ونحن قريب نسمع ما تقولين فوعدته وجلسوا قريباً، فأقبل لموعدٍ لها، فلما دنا منها دمعت عيناها وألتفت إلى جنب أهَلها وهم جلوس ، فعرف أنهم قريب وبلغه الحال فقال:فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوى على إنه لم يبق سِر ولا ستر
ولم يك حن عن نواك بذلته فيسلبني عنك التجنب والهجر
وما أنس للأشياء ولا أنس ومقها ونظرتها حتى يغيبني القبر
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أثر ذلك خالد بن الوليد، فكان منه ما تقدم ذكره.
وفي هذه السنة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم مليكة ابنة داود الليثية، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة فجاء إليها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ألا تستحين تزوجين رجلًا قتل أباك. فاستعاذت منه ، وكانت جميلة حدثة ففارقها.
وفيها هدم خالد بن الوليد العُزَي ببطن نخلة لخمس ليال بقين من رمضان ، وكان هذا البيت تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها بنو شيبان بن سليم حلفاء بني هاشم ، فلما سمع صاحبها بمسير خالد بن الوليد إليها علق عليها سيفه وقال :
أيا عزّ شدي شدة لا شوى لها(2) على خالد ألقى القناع وشمري
فلما انتهى خالد إليها جعل السادن يقول:أعزي بعض غضباتك وكسر الصنم وهدم البيت ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:تلك العزى لا تعبد أبداً. وفيها هدم عمرو بن العاص سواع ؛ وكان برُهَاط (2) لهذيل فلما كسر الصنم أسلم سادنه ولم يجد في خزانته شيئاً. وفيها هدم سعد بن زيد الأشهلي مناة بالمُشَلل (3)، وكان للأوس والخزرج.
* * *
ذكر غزوة هوازن بحُنَيْن
وكانت في شوال ، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة جمعها مالك بن عوف النصري من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقالوا:لا مانع له من غزونا والرأي أن نغزوه قبل أنْ يغزونا، واجتمع إليه ثقيف يقودها قارب بن الأسود بن مسعود سيد الأحلاف ؛ وذو الخمار سبيع بن الحارث ، وأخوه الأحمر بن الحارث سيد بني مالك ولم يحضرها من قيس عيلان ، إلا نصر، وجُشم ، وسعد بن بكر وناس من بني هلال. ولم يحضرها كعب ولا كلاب ، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخاً مجرباً، فلما أجمع مالك بن عوف المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حطّ مع الناس أموالهم ونساءهم فلما نزلوا أوطاس جمع الناس وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد:بأي واد أنتم ؟ فقالوا:بأوْطَاس (1) قال:نِعْمَ مجال الخيل لا حَزْن (2) ضَرِس ، ولا سهل دَهِس ، ما لي أسمع رُغَاء البعير، ونهاق الحمير، ويُعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا:ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فقال:يا مالك إن هذا يوم له ما بعده ما حملك على ما صنعت ؟ قال:سُقْتُهم مع الناس ليقاتل كُلُّ إنسان عن حريمه وماله ، قال:دريد راعي ضأن والله ، هل يرد المنهزم شيء ؟ ! إنَّها إنْ كانت لك لم ينفعك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك. وقال:ما فعلت كعب ، وكلاب ؟ قالوا:لم يشهدها أحذ منهم. قال:غاب الجَذُو والحَدُّ(4) لوكان يوم علاء ورفعة لم تَغِبْ عنه كعب ولا كلاب ووددتُ أنكم فعلتم ما فعلا.
ثم قال:يا مالك ارفع من معك إلى علياً بلادهم ثم ألق القوم على متون الخيل.
فإنْ كانت تلك لك لَحِقَ بك مَنْ وراءك ، وإنْ كانت عليك كنت قد أحرزتَ أهلك ومالك. قال مالك:والله لا أفعل ذلك إنك قد كبرتَ وكبر عِلْمُك ، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري - وكره أن يكون لدريد فيها ذِكْر، ورأي. فقال دريد:هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
ثم قال مالك:أيها الناس إذا رأيتم القوم فاكسروا جُفُون سيوفكم وشِذُوا عليهم شَدَّة رجل واحد، وبعث مالك عيونه ليأتوه بالخبر فرجعوا إليه وقد تفرقتْ أوصالُهُم فقال:ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا:رأينا رجالاً بيْضاً على خيلٍ بُلْق ، فوالله ما تماسكنا أن حَلّ بنا ما تري ، فلم ينهه ذلك عن وجهه أنْ مضى على ما يريد.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن أجمع المسير إليهم وبلغه أنٌ عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذ مشرك أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا غداً. فقال له صفوان:أغَصْباً يا محمد؟ فقال:بل عارية مضمونة نؤديها إليك. قال:ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من مسلمة الفتح مع عشرة آلاف من أصحابه فكانوا اثني عشر ألفاً، فلما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة من معه قال:". لَنْ نُغْلَبَ اليوم من قلة " وذلك قوله تعالى
وًيوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُم كَثْرَتُكُم فَلَم تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً)(1) ، وقيل:إنما قالها رجل من بكر. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على من بمكة عتاب بن أسيد. قال جابر:فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه ، قد أجمعوا وتهيؤا وأعدوا له فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحدٌ على أحد، وانحاز رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ، ثم قال:" أيها الناس هلموا إليّ أنا رسول الله:أنا محمد بن عبد الله " قاله ثلاثاً.
ثم احتملت الِإبل بعضها بعضاً إلا إنه قد بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفرٌ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. منهم أبو بكر، وعمر، وعلي ، والعباس ، وابنه الفضل ، وأبو سفيان بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد قال:وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس فإذا أدرك رجلًا طعنه وإذا فاته الناس رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه فحمل عليه عليّ فقتله.
ولما انهزم الناس تكلم رجالٌ من أهل مكة بما في أنفسهم من الضَّغَن ، فقال أبو سفيان بن حرب:لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، والأزلام معه في كنانته. وقال كلدة بن الحنبلي وهو أخو صفوان بن أمية لأمه وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركاً:الآن بَطُلَ السحر. فقال له صفوان:اسكت فَضَّ الله فاك فوالله لأن يربًني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربَّني رجل من هوازن. وقال شيبة بن عثمان:اليوم أدْرِكُ ثأري من محمد - وكان أبوه قتل بأحد. قال:فأدرت به لأقتله شيءٌ حتى تنشى فؤادي فلم أطق ذلك ، وعلمتُ أنه مُنِعَ مني. وكان العباس مع النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بلجام بغلته دُلْدُل وهو عليها، وكان العباس جسيماً شديد الصوت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السَّمُرَة " ففعل فأجابوه:" لبيك لبيك " ، فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت ، فاجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم شدة القتال قال:أنا النبي لا كذب أنا ابنُ عبد المطلب" الآن حمي الوطيس " ، وهو أول من قالها، واقتتل الناس قتالاً شديداً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبغلته دلدل:" البدي دلدل " فوضعت بطنها على الأرض فأخذ حفنة من تراب فرمت به في وجوههم فكانت الهزيمة فما رجع الناس إلّا والأساري في الحِبَال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل:بل أقبل شيءُ أسود من السماء مثل البجاد(1)حتى سقط بين القوم فإذا نملٌ أسود مبثوث فكانت الهزيمة؛ ولما انهزمت هوازنُ قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلًا فأما الأحلاف من ثقيف فلم يُقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً ، وقصد بعض المشركين الطائف ، ومعهم مالك بن عوف واتّبعت خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين فقتلهم فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد بن الصمة ولم يعرفه لأنه كان
في شجار(1) لكبره وأناخ بعيره فإذا هو شيخ كبير فقال له دريد:ماذا تريد؟ قال:أقتلك. فال:ومن أنت ؟ فانتسب له ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً، فقال:دريد بئس ما سلحتك أمك خذ سيفي فاضرب به ثم ارفع عن العظام واخفض عن الدماغِ فإني كذلك كنت أقتُل الزجال وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فربَ يومِ قد منعتُ فيه نساءك ، فقتله ، فلما أخبر أمه قالت:والله لقد أعتقَ أمهات لك ثلاثاَ واستلب أبو طلحة الأنصاري يوم حنين عشرين رجلًا وحده وقتلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَتَلَ قَتِيْلاً فله سلبه "(2). وقتل أبو قتادة الأنصاري قتيلاً وأجهضه (3) القتال عن أخذ سلبه فأخذه غيره ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قام أبو قتادة فقال:قتلتُ قتيلاً وأخذ غيري سلبه. فقال الذي أخذ السلب:هو عندي فارضه مني يا رسول الله ، فقال أبو بكر: لا والله تعمد إلى أسدٍ من أسْدِ الله يقاتل عن الله تقاسمه فرد عليه السلب.
وكان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني فقتل فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلى ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغرل فصرخ بأعلى صوته يا معشر العرب إن ثقيفاً لا تختتن فقال له المغيرة بن شعبة:لا تقل هذا إنما هو غلام نصراني وأراه قتلى ثقيف مختتنين ، ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق بامرأة مقتولة فقال:من قتلها؟ قالوا:خالد بن الوليد. فقال لبعض مَنْ معه:أدرِك خالداً فقل له:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل امرأة أو وليداً أو عسيفاً - والعسيف:الأجير.
وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فرمى أبو عامر بسهم قيل:رماه سلمة بن دريد بن الصمة، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي عامر وانهزم المشركون بأوطاس وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى، فقالت لهم:إني والله أختُ صاحبكم من الرضاعة فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له:إنّي أختك. قال:وما علامة ذلك ؟ قالت:عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك ، فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيّرها، فقال:إنْ أحببت فعندي مُكَرَّمَةٌ محبة وإن حببت أنْ أمتعك وترجعي إلى قومك ؟قالت :بل تمتعني وتردني إلى قومي ففعل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا والأموال فجُمِعَتْ إِلى الجعرانة وجعل عليها بُديل بن ورقاء الخزاعي واستشهد من المسلمين بحنين أيمن بن أم أيمن ، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى وغيرهما.
ذكر حصار الطائف
لما قدم المنهزمون من ثقيف ومَنْ انضمّ إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتهم واستحصروا(1) وجمعوا ما يحتاجون إليه ، فسار إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما كان ببحرة الرُّغا ابتنىِ بها مسجداً فصلى فيه قبل وصوله إلى الطائف ، وقتل بها رجلاً من بني ليث قصاصاَ كان قد قتل رجلًا من هذيل فأمر بقتله ، وهو أول دم أقيد به في الاسلام ، وسار إلى ثقيف فحصرهم بالطائف نَيِّفاً وعشرين يوماً ونصب عليهم منجنيقاً أشار به سلمان الفارسي وقاتلهم قتالاً شديداً حتى كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من المسلمين تحت دَبَّابَة(2) عملوها ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة فخرجوا من تحتها فرماهم من بالطائف بالنبل فقتلوا رجالَاَ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَطع أعناب ثقيف فقُطِّعَتْ ونزل إلى رسول الله نفرٌ من رقيق أهل الطائف فأعتقهم منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث عبد الحارث بن كلّدة وإنما قيل له:أبو بكرة ببكرة نزل فيها وغيره ، فلما أسلم أهل الطائف تكلمت سادات أولئك العبيد في أنْ يَرُدَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرقّ فقال:لا أفعل أولئك عتقاء الله. ثم إنّ خويلة بنت حكيم السلمية -وهي امرأة عثمان بن مظعون -قالت:يا رسول الله أعطني إنْ فتح الله عليك الطائف حليّ بادية بنت غيلان أوحليّ الفارعة بنت عقيل وكانتا من أكثر نساء ثقيف حُلياً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :أرأيتِ إنْ كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟ فخرجت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فدخل عليه عمر وقال :يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة أنك قد قلته ؟ قال:قد قلته. قال:أفلا أؤذن بالرحيل يا رسول الله ؟ قال:بلى فأذن بالرحيل ، فأذن عمر فيهم بالرحيل ، وقيل:إن رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال:يا رسول الله ثعلب في جُحْر إنْ أقمتَ عليه أخذته وإنْ تركته لم يضرك فأذن بالرحيل ، فلما رجع الناس قال رجلٌ :يا رسول الله ادعُ على ثقيف. قال:اللهم اهد ثقيفاً وأتِ بهم. فلما رأت ثقيف الناس قد رحلوا عنهم نادى سعيد بن عبيد الثقفي ألا إن الحيّ مقيم. فقال عيينة بن حصن:أجل والله مجدة كراماً، فقال رجل من المسلمين:قاتلك الله يا عيينة أتمدحهم بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال:إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفاً ولكني أردتُ أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتبطنها لعلها تلد لي رجلاً فإنّ ثقيفاً قوم مناكير. واستشهد بالطائف اثنا عشر رجلاً ، منهم عبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب ، وعبد اللهّ بن أبي بكر الصديق رُميِ بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسائب بن الحارث بن عديّ وغيرهم.
ذكر قسمة غنائم حنين
لما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف سار حتى نزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأنته وفود هوازن بالجِعِرَّانه (2) وقد أسلموا فقالوا:يا رسول الله إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا ما لم يخف عليك فامنن علينا مَنَّ الله عليك ، وقام زهير أبو صُرد من بني سعد بن بكر وهُم الذين أرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله إنما في الحظائر(3) عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنّا ارضعنا الحارث بن أبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه وأنت خير المكفولين ، ثم قال:امنن علينا رسول الله في كَرَمٍ فإنك المرءُ نرجُوهُ ونَدَّخِرُ امنن على نسوةٍ قد عاقها قدر ممزق شملها في دهرها غير في أبيات ، (1) فخيّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم ، فاختاروا أبناءهم ونساءهم فقال:أمَا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا أنا صليتُ بالناس فقولوا:إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم وأسْالُ فيكم. فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقال الأقرع بن حابس:ما كان لي ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن:ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مِرْدَاس:ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنو سليم:ما كان لنا فهو لرسول الله. فقال:وَهَّنْتُمُوني(2). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من تَمَسكَ بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مالك بن عوف فقيل:إنه بالطائف فقال:أخبروه إنْ أناني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير فاخبر مالك بذلك فخرج من الطائف سيراً ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن اسلامه ، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف فأعطاه أهله وماله ومائة بعير، وكان يقاتل بمن أسلم معه من ثمالة وفهم ، وسلمة ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون:يا رسول الله أقسم علينا فيئنا من الِإبل والغنم حتى ألجأوه (3)إلى شجرة فاختُطفت رداءه فقال:" ردوا عليّ ردائي أيها الناس فواللّه لو كان لي عدد شجر تهامة نعم لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً"، ثم رفع وبرة من سنام بعير وقال:"ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم ، فأدوا الخياط والمخيط ، فإنّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشَنَاراً يوم القيامة، فمن أخذ شيئاً رده " ثم أعطى المؤلفة قلوبهم وكانوا من أشراف الناس يتألفهم على الاسلام فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حِزَام ، والعلاء بن جارية الثقفي ، والحارث بن هشام ، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو؛ وحُوَيْطب بن عبد العزى، وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، ومالك بن عوف النصري كل واحد منهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً ، منهم مخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب بن عمرو، وسعيد بن يربوع ، وأعطى العباس بن مرداس أباعر فسخطها ، وقال:يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كانت نهابا تلافيتها بِكَرِّي على المهر في الأجرع
وايقاظي القوم أنْ يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي وهب العُبَبْ حد(1) بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تُدرإ فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أفائل (2) أعطيتها عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرادس (3) في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرْفَع
فأعطاه حتى رَضِيَ ، وقال رجل من الصحابة:يا رسول الله أعطيتَ عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:والذي نفسي بيده لجعيلِ خيرٌ من طلاع الأرض رجالًا كلهم مثل عيينة والأقرع ، ولكني تألفتهما ووكلت جعيلاً إلى إسلامه. وقيل:إن ذا الخويصرة التميمي في هذه القسمة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :إنك لم تعدل اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن يعدل إذا لم أعدل "؟ فقال عمر بن الخطاب:ألا نقتله ؟ فقال:دعوه ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرَّمِيَّة، ينظر في النصل فلا يوجد شيء ، ثم في القدح فلا يوجد شيء ، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث (4) والدم. قيل إنّ هذا القول إنما كان في مال بعث به عليّ من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين جماعة منهم عيينة، والأقرع وزيد الخيل ، قال أبو سعيد الخدري:لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك الغنائم في قريش ، وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئاً وجدوا في أنفسهم حتى قال قائلهم:لقيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، فأخبر سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له:فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال:ما أنا إلا من قومي.. قال:فاجمع قومك لي في هذه الحظيرة. فجمعهم فاتاهم رسول الله فقال:ما حديث بلغني عنكم ! ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي ؟ وفقراء فأغناكم الله بي ؟ وأعداء فألَّفَ اللَّهُ بين قلوبكم بي ؟ قالوا:بلى والله يا رسول الله وللهّ ورسوله المَنّ والفضل. فقال:ألا تجيبوني ؟ قالوا:بماذا نجيبك ؟ فقال:والله لو شئتم لقلتم فصدقتم:أتيتنا مُكَذَّباً فصدقناك ، ومخذُولاً فَنَصَرْنَاك ، وطَرِيداً فآويناك ، وعائلًا(1) فواسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(2) من الدنيا تألفتً بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ! أفلا ترضون أنْ يذهبَ الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنتُ امراءاً من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعْباً وسلكت الأنصارُ شعباً لسلكتُ شِعْبَ الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. قال:فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا:رضينا برسول الله قسماً وحظاً ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة وعاد إلى المدينة واستخلف على مكة عتاب بن أسِيد وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القران ، وحج عتاب بن أسيد بالناس والناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج ، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي القعدة أوذي الحجة.
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعياذ(3) ابني الجلندى من الأزد بعمان مصدقاً (1) فاخذ الصدقة من أغنيائهم ورَذَها على فقرائهم وأخذ الجزية من المجوس الذين بها وهم كانوا أهل البلد وكان العرب حولها، وقيل:سنة سبع.
وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلابية واسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان فاختارت الدنيا حين خُيِّرَتْ ، وقيل:إنها استعاذت منه ففارقها.
وفيها ولدت مارية إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فدفعه إلى أم بردة(2) بنت المنذر الأنصارية فكانت ترضعه وزوجها البراء بن أوس الأنصاري ، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت أبا رافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بإبراهيم فوهب له مملوكاً، وغار نساء النبي صلى الله عليه وسلم وعظم عليهن حين رزقت مارية منه ولداً.
وفيها بعث رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير إلى ذات اطلاح من الشام إلى نفر من قضاعة يدعوهم إلى الاسلام ومعه خمسة عشر رجلاً، فوصل إليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، وكان رئيس قضاعة رجلاً يقال له:سدوس فقتلوا المسلمين ونجا عمير فتقدم إلى المدينة.
وفيها بعث أيضاً عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر من تميم فأغار عليهم وسبى منهم نساءً، وكان على عائشة عتق رقبة من بني اسماعيل ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:هذا سبي بني العنبر يقدم علينا فنعطيك إنساناً فتعتقيه.
ثم دخلت سنة تسع
ذكر إسلام كعب بن زهير
قيل:خرج كعب بن زهير بن أبي سُلمى ، أو أبو سُلمى ربيعة المزني ومعه أخوه بجير حتى أتيا أبرق العزاف فقال له بجير: اثبت في غنمنا حتى آتي هذا الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمع منه ، فأقام كعب وسار بجير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وبلغ ذلك كعباً فقال :
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة فهل لك فيما قلت ويحك ؟ هل لكا؟ سقاك بها المأمور(1) كأسا روّية. فأنهلك المأمور منها وعلكا ففارقت أسباب الهدى واتبعته على أيَ شيءٍ شب غيرك دلكا على خلق لم تلف أماً ولا أبا عليه ولم تدرك عليه أخالكا فإنْ أنت لم تفعل فلستُ بآسف ولا قائل أما عثرت لعالكا
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله غضب وأهدر دمه ، فكتب بذلك بجير إلى أخيه بعد عود رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ، وقال:النجاء النجاء وما أدري إنْ تتفلت ثم كتب إليه (2) إذا أتاك كتابي هذا فأسلم وأقبل إليه فإنه لا يأخذ مع الاسلام بما كان قبله ، فأسلم كعب وجاء حتى أناخ راحلته بباب المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. قال كعب:فعرفته بالصفة فتخطيت الناس إليه فأسلمتُ ، وقلت:الأمان يا رسول الله هذا مقام العائذ بك. قال:من أنت ؟فقلت :كعب بن زُهَير. قال:الذي يقول ثم التفت إلى أبي بكر فقال:كيف قال ؟ فأنشده أبو بكر الأبيات التي أولها. ألا أبلغا عني بجيراً رسالة. فقال كعب:ما هكذا قلت:يا رسول الله إنما قلت : سقاك أبو بكر بكاس روية فأنهلك المأمون منها وعلكا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :مأمون والله. فتجهمته الأنصار وأغلظت له ، ولانت له قريش وأحبت إسلامه فأنشده قصيدته التي أولها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيمٌ عندها (1)لم يفد مكبول
فلما انتهى إلى قوله :
وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت:خلوا سبيلي لا أبالكم فكل ما قَذَرَ الرحمنُ مفعول
كل ابن أنثى وإنْ طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
ثم قال : في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش فأومأ إليهم أن اسمعوا حتى قال :
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود التنابيل لا يقع الطعن ألا في نحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
يُعَرِّضُ بالأنصار لغلظتهم التي كانت عليه ، فأنكرت قريش قوله وقالوا:لم تمدحنا إذ هجوتهم ولم يقبلوا ذلك منه وعظم على الأنصار هجوه فشكوه فقال يمدحهم :
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب (2) من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر إنّ الخيار هم بنو الأخيار
الناظرون بأعين محمرة كالجمر غير كليلة الأبصار
الباذلون نفوسهم ودماءهم يوم الهياج وسطوة الجبار
يتظهرون يرونه نسكاً لهم بدماء من قتلوا (1)من الكفار
في أبيات. فكساه النبي صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه ، فلما كان زمن معاوية أرسل إلى كعب أن بِعْنَا بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحداً، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم ، وهي البردة التي عند الخلفاء الآن ، وقيل:إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وقطع لسانه لأنه كان تشبب بأم هانىء بنت أبي طالب.
ذكر غزوة تبوك
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب ، ثم أمَرَ الناس بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبُعْد الطريق وشدة الحر وقوة العدو، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة وَرَّي بغيرها ، وكان سببها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ هِرَقْل ملك الروم ومن عنده مِنْ متنصرة العرب قد عزموا على قصده فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم ، وكان الحرّ شديداً والبلاد مجدبة والناس في عسرة، وكانت الثمار قد طابت فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كُرْهٍ ،فكان ذلك الجيش يسمى جيش العُسْرَة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس - وكان من رؤساء المنافقين - هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال:والله لقد عرف قومي حُبَي للنساء وأخشى أنْ لا أصبر على نساء بني الأصفر، فإنْ رأيتَ أنْ تأذن لي ولا تفتنىِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذنتُ لك. فأنزل الله تعالى
وَمِنْهُمَ مَنْ يَقُولُ:ائذَنْ لِي وَلَا تفْتِنٌي)(1) الآية. وقال قائل من المنافقين:لا تنفروا في الحر- زهادة في الجهاد وَشَكًّا في الحق وإرجافاً بالرسول صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرً قُلْ نَارُ جَهَنَمَ أشَذُ حَراً)(2) الآية.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله وأنفق أهل الغنى وأنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله ، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحدٌ أعظم منها قيل:كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار، ثم إنّ رجالاً من المسلمين أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤن وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، وكانوا أهل حاجة فاستحملوه فقال:لا أجدُ ماأحملكم عليه فتولوا يبكون ، فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري فسألهم عما يبكيهم فأعلموه فأعطى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل المزني بعيراً فكانا يعتقبانه مع رسول صلى الله عليه وسلم، وجاء المعذَرون من الأعراب فآعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعذرهم الله ، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك ، منهم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة وكانوا نفر صدق لا يتهمون في اسلامهم. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق ، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سِباع بن عُرفطة، وعلى أهله عليّ بن ابي طالب فأرجف به المنافقون وقالوا:ما خَلّفه إلا استثقالاً له ، فلما سمع على ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما قال المنافقون ، فقال:كذبوا وإنما خلّفتُك لما ورائي فارجع فاخلُفني في أهلي وأهلك ، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. فرجع علي إلى المدينة.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا خيثمة أقام أياماً فجاء يوماً إلى أهله ، وكانت له امرأتان وقد رشت كل امرأة منهما عريشها وبرَّدَت له ماء وصنعت طعاماً، فلما رآه قال:يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح وأبو خيثمة في الظل البارد والماء البارد والطعام المهيء والمرأة الحسناء في ماله مقيم ! ما هذا بالنصف ، والله ما أحل عريشاً منهما حتى ألحِق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه بتبوك. فقال الناس:يا رسول الله هذا راكب مقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كن أبا خيثمة. فقالوا:هو والله أبو خيثمة. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبره فدعا له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر وهو بطريقه وهو منزل ثمود قال لأصحابه :
" لا تشربوا من هذا الماء شيئاً ولا تتوضأوا منه ، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الِإبل ولا تأكلوا منه شيئاً؛ ولا يخرج الليلة أحدٌ إلّا مع صاحب له "، ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحدٌ إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فأصابه جنون ، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيىء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له ؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي ، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيئ إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة. وأصبح الناس بالحجر ولاماء معهم فشكوا ذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله فأرسل سحابة فأمطرت حتى روىِ الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين:هل بعد هذا شيء ؟ قال:سحابة مارّة.
. وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق فقال لأصحابه وفيهم عمارة بن حزم:إنّ رجلًا قال:إنّ محمداً يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ وإني والله لا أعلم إلا ما علّمني الله عزّ وجلّ وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي في شِعْب كذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطَلقوا فأتَوه بها، فرجع عمارة إلى أصحابه فخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناقة تَعَجُّباً مما رأي. وكان زيد بن لصيب (2) القينقاعي منافقاً وهو في رحل عمارة قد قال:هذه المقالة، فأخبر عمارة بأن زيداً قد قالها فقام عمارة يطأ عنقه ويقول:في رحلي داهية ولا أدري آخرج عني يا عدو الله مِنْ رحلي ولا تصحبني. فزعم بعض الناس أنّ زيداً تاب بعد ذلك وحسن إسلامه ، وقيل:لم يزل متهماً حتى هلك.
ووقف بأبي ذر جملُه فتخلّف عليه فقيل:يا رسول الله تخلّف أبو ذر فقال:" ذروه فإن يك فيه خير فَسَيُلحقه الله بكم فكان يقولها لكل مَنْ تخلف عنه ، فوقف أبو ذر على جمله ، فلما أبطأ عليه أخذ رَحْلَهُ عنه وحمله على ظَهْرِهِ وتَبعَ النبي صلى الله عليه وسلم ماشياً، فنظر الناسُ فقالوا:يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كن أبا ذر. فلما تأمله الناس قالوا:هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبْعَثُ وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين. فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة فأصابه بها أجَلُه ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أنْ يغسلاه ويكفناه ثم يضاه على الطريق فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه ففعلا ذلك ، فآجتاز بهما عبدالله بن مسعود في رهط من أهل العراق فأعلمته امرأة أبي ذر بموته فبكى ابن مسعود وقال:صدق. رسول الله صلى الله عليه وسلم "تمشي وحدك. وتموت وحدك. وتبعث وحدك " ، ثم واروه.
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فأتى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتاباً فبلغتْ جزيتهم ثلاثمائة دينار، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية، فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة وصالح أهل أذْرُح (1)على مائة دينار في كل رجب ، وصالح أهل جرباء(2)على الجزية ؛ وصالح أهل مَقْنَا(3) على ربع ثمارهم.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان نصرانياً من كندة فقال لخالد:إنك تجده يصيد البقر. فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقرة تحك بقورنها باب الحصن فقالت امرأته:هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال:لا والله. قالت فمن يترك هذا؟ قال:لا أحد، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته ، ثم خرج يطلب البقر فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته وقتلوا أخاه حساناً ، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أتعجبون من هذا ! لمناديل سعد بن معاذ(4) في الجنة أحسن من هذا. وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخَلَّى سبيله فرجع إلى قريته.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ولم يقدم عليه الروم والعرب المنتصرة فعاد إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين بواد يقال له:وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سبقنا فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه " فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بفعلهم فلعنهم ودعا عليهم ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فوضع يده تحته وجعل يصب إليها يسيراً من الماء فدعا فيه ونضحه في الوشل فانخرق الماء جرياً شديداً فشرب الناس واستقوا. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قارب المدينة فأتاه خبر مسجد الضرار فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه وهدمه ، وأنزل الله فيه (وَالَذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراًوَكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْن المُؤمِنِين)(1) الآيات ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد تخلّف عنه رهط من المنافقين فأتوه يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ورسوله ، وتخلّف أولئك النفر الثلاثة وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع تخلفوا من غير شك ولا نفاق فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم فاعتزلهم الناس فبقوا كذلك خمسين ليلة؛ ثم أنزل الله توبتهم (وَعَلَى الثَلاَثَةِ الَّذِيْن خُنَفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحَبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنْفُسُهُم) (2)الآيات إلى قوله (صَادِقِيْن) وكان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان.
ذكر قدوم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيها قدم عُروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، وقيل:بل أدركه في الطريق مرجعه من الطائف وسأله أنْ يرجع إلى قومه بالِإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّهم قاتلوك ". فقال:أنا أحَبّ إليهم من أبكارهم " ، ورجا أنْ يوافقوه لمنزلته فيهم ، فلما رجع إلى الطائف صد إلى علية له وأشرف منها عليهم وأظهر الِإسلام ودعاهم إليه فرموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله ، فقيل له ؛ ما ترى في دمك ؟ فقال:كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها إليّ ليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله فادفنوني معهم. فلما مات دفنوه معهم ، وقال:رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فيه " إنّ مَثَلَه في قومه كمثل صاحب يس في قومه ".
ذكر قدوم وفد ثقيف
وفي هذه السنة في رمضان قَدِمَ وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبب ذلك أنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنّ من يحيط بهم من العرب قد نصبوا لهم القتال وشنوا الغارات عليهم وكان أشدهم في ذلك مالك بن عوف النصري ، فلا يخرج منهم مال إلا نهب ولا إنسان إلا أخِذ، فلما رأوا عجزهم اجتمعوا وأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والحكم بن عمرو بن وهب ، وشرحبيل بن غيلان وهؤلاء من الأحلاف ، وأرسلوا من بني مالك عثمان بن أبي العاص ، وأوس بن عوف ، ونمير بن خرشة فخرجوا حتى قدموا على رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فأنزلهم في قبة في المسجد. فكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي بينهم ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ما يأكلونه مع خالد وكانوا لا يأكلون طعاماً حتى يأكل خالد منه حتى أسلموا. وكان فيما سألوا رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم أن يَدَعَ الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى عليهم وكان قصدهم بذلك أنْ يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم ، فنزلوا إلى شهر(1) فلم يُجِبْهُم وسألوه أن يعفيَهُم من الصلاة فقال:" لا خير في دين لا صلاة فيه ". فأجابوا وأسلموا ، وأمّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص ، وكان أصغرهم لما رأى من حرصه على الاسلام والتفقه في الدين ، ثم رجعوا إلى بلادهم ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب ليهدما الطاغية فخرجا مع القوم حتى قَدِمَا الطائف ، فتقدم المغيرة فهدمها ، وقام قومه من بني شعيب دونه خوفاً أنْ يُرْمَى بسهم ، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، وأخذ حليها ومالها وكان أبو مليح بن عروة بن مسعود، وقارب بن الأسود بن مسعود قدماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل عروة والأسود فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي منه دين عروة والأسود ابني مسعود ففعلا، وكان الأسود مات كافراً فسأل ابنه قارب بن الأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي دين أبيه ، فقال:إنه كافر. فقال:يصل مسلم ذا قرابته يعني أنه أسلم فيصل أباه وإن كان مشركاً.
ذكر غزوة طيىء واسلام عديّ بن حاتم
في هذه السنة في شهر ربيع الآخر أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب في سرية إلى ديار طيىء وأمره أن يهدم صنمهم الفلس فسار إليهم وأغار عليهم فغنم وسبى وكسر الصنم ، وكان متقلداً سيفين ، يقال:لاحدهما مخذم ، وللآخر رسوب فأخذهما عليَ وحملهما إلى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكان الحارث بن أبي شمر أهدي السيفين للصنم فعلقا عليه ، وأسر بنتاً لحاتم الطائي وحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأطلقها. وأما إسلام عديّ بن حاتم فقال عديّ:جاءتْ خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا أختي وناساً فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أختي:يا رسول اللهّ هلك الوالد، وغالب الوافد فامنن على مَنّ اللهّ عليك:فقال:ومَن وافدك ؟ قالت:عدي بن حاتم. قال:الذي فر من الله ورسوله. فمنّ عليها وإلى جانبه رجل قائم وهو علي بن أبي طالب قال:سليه حملاناً، فسألته فأمر لها به ، وكساها وأعطاها نفقة. قال عدي:وكنت ملك طيئ آخذ منهم المرباع وأنا نصرانيّ فلما قدمتْ خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربتُ إلى الشام من الاسلام وقلتُ:أكون عند أهل ديني فبينا أنا بالشام إذ جاءت أختي وأخذتْ تلومني على تركها وهربي بأهلي دونها، ثم قالت لي:أري أنْ تلحق بمحمد سريعاً فإنْ كان نبياً كان للسابق فضله ، وإنْ كان ملكاً كنت في عِزٍّ وأنت أنت. قال:فقدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمتُ عليه وعَرَّفته نفسي فانطلق إلى بيتي فلقيْته امرأة ضعيفة فاستوقفته فوقف لها طويلَاً تكلمه في حاجتها فقلت:ما هذا بملك. ثم دخلت بيته فأجلسني على وسادة وجلس على الأرض ، فقلت في نفسي:ما هذا ملك. فقال لي:يا عدي إنك تأخذ المِرْباع (1) وهو لا يحل في دينك ، ولعلك إنما يمنعك من الاسلام ما تري من حاجتنا وكثرة عدونا، واللهّ ليفيضنّ المالُ فيهم حتى لا يوجد مَنْ يأخذه ، وواللّه لتسمعن بالمرأة تسير من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا اللهّ ، وواللّه لتسمعن بالقصور البيض من بابل وقد فُتِحَتْ. قال:فأسلمت فقد رأيتُ القصور البيض وقد فتحت ؟ ورأيت المرأة تخرج إلى البيت لا تخاف إلا الله ، ووالله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يقبله أحد
ذكر قدوم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لَمّا افتتح رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وفرغ من تبوك ضَرَبَتْ إليه وفودُ العرب مِنْ كُلِّ وَجْهٍ