ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن
واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي بالنون ، وعنس بطن من مَذِحج ، وكان يلقب " ذا الخمار " لأنه معتماً متخمراً أبداً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه ، وأمّره على جميع مخاليفه فلم يزل عاملًا عليه حتى مات ، فلما مات باذان فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه في اليمن فاستعمل عمرو بن حزم على نجران ، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان ، وعلى صنعاء شهر بن باذان ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى ، وعلى الجَنَد(2) يعلى بن أمية، وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت ، واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري ، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله أو المهاجر، فاشتكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت.
وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر، وفيروز، وداذويه ، وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك فادعى النبوة ، وكان مشعوذاً يريهم الأعاجيب ، فاتبعته مَذِحج ، وكانت ردة الأسود أول ردة في الاسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغزا نجران ، فأخرج عنها عمرو بن حزم ، وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح على فروة بن مسيك. وهو على مراد فأجلاه ونزل منزله ، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هارباً حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب فلحقا بحضرموت. ولحق بفروة من تم على إسلامه من مَذحِج ، واستتب للأسود ملكُ اليمن ، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلّا عمراً وخالداً فإنهما رجعا إلى المدينة والطاهر (يومئذ) بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والاحساء إلى عدن ، واستطار أمره كالحريق وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان واستغلظ أمره ، وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب ، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث. وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه ، وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله ، وهي ابنة عم فيروز. وخاف من بحضرموت من المسلمين أنْ يبعث إليهم جيشاً أو يظهر بها كذابٌ مثل الأسود فتزوج معاذ إلى السكون فعظفوا عليه.
وجاء إليهم وإلى مَنْ باليمن من المسلمين كتابُ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بقتال الأسود فقام معاذ في ذلك ، وقويت نفوس المسلمين ، وكان الذي قدم بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وبربن يحنس الأزديّ ، قال جشنس الديلمي فجاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بقتاله إما مصادمة آو غيلة يعني إليه وإلى فيروز وداذويه وأن نكاتب من عنده دين ، فعملنا في ذلك. فرأينا أمراً كثيفاً، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث ، فقلنا:إن قيساً يخاف على دمه فهو لأول دعوة فدعوناه وأبلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما نزلنا عليه من السماء فأجابنا وكاتبنا الناس فأخبره الشيطان شيئاً من ذلك فدعا قيساً أن شيطانه يأمره بقتله لميله إ.لى عدوه. فحلف قيس لأنت أعظم في نفسي مِنْ أن أحَدِّثَ نفسي بذلك.
ثم أتانا فقال:يا جشنس ، ويا فيروز؛ ويا داذويه فاخبَرَنَا بقول الأسود، فبينا نحن معه يحدثنا إذا أرسل إلينا الأسود فتهددنا ، فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر، وذي زود وذي مران ، وذي الكلاع ، وذي ظلم يبذلون لنا النصر فكاتبناهم وأمرناهم أنْ لا يفعلوا شيئاً حتى نبرم أمرنا وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكتب أيضاً إلى أهل نجران فأجابوه ، وبلغ ذلك الأسود وأحس بالهلاك قال:فدخلت على آزاد وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر بن باذان فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكّرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء فأجابت وقالت:والله ما خلق اللّهُ شخصاً أبغض إليّ منه ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن مُحَرّم فأعلِمُوني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال:فخرجت وأخبرتُ فيروز، وداذويه ، وقيساً، قال:وإذ قد جاء رجلٌ فدعا قيساً إلى الأسود فلي خل في عشرة من مذحج ، وهمدان فلم يقدر على قتله معهم وقال له:ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب ؟ إنه يعني شيطانه –يقول لي:إن لا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك. فقال قيس:أنه ليس من الحق أنْ أهلك وأنت رسولُ الله فمُرْني بما أحببت أو اقتلني فموتة أهون من موتات ،فرقّ له وتركه ، وخرج قيس فمر بنا وقال:اعملوا عملكم ولم يقعد عندنا، فخرج علينا الأسود في جمعٍ فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير فنحرها ثم خلاها، ثم قال:أحق ما بلغني عنك يا فيروز وبوأ له الحربة لقد هممت أن أنحرك. فقال:لقد اخترتنا لصهرك وفضلتنا(على الأبناء فلو لم تكن نبياً لما بعنا نصيبنا منك بشيء ، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمرُ الدنيا والآخرة. فقال له:اقسم هذه فقسمها ولحق به ، وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له:أنا قاتله غداً وأصحابه ثم ألتفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر فأرسلنا إلى قيس فجاءنا فاجتمعنا على أنْ أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها فأتيتها فأخبرتها فقالت:هو متحرز. وليس من القصر شيءٌ إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا فإذا أمسيتم فانقبُوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء وستجدون فيه سِرَاجاً وسلاحاً. فتلقاني الأسود خارجاً من بعض منازلة فقال:ما أدخلك عليّ ؟ ووجأ رأسي حتى سقطت ، وكان شديداً، فصاحت المرأة فأدهشته (عني ولولا ذلك لقتلني) وقالت:جاءني ابن عمي زائراً ففعلتَ به هذا! فتركني ، فأتيت أصحابي فقلتُ النجاء الهرب وأخبرتهم الخبر، فإنّا على ذلك حياري إذ جاءنا رسولها يقول:لا تدعن ما فارقتك عليه فلم أزل به حتى اطمأن. فقلنا لفيروز:كل ائتها فتثبت منها. ففعل فلما أخبرته قال:ننقب على بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة فأخبرته برضاع وقرابة منها محرم ، فأخرجه فلما أمسيا عملنا في أمرنا وأعلمنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت (من خارج) ودخلنا وفيه سراج تحت جفنة واتقينا بفيروز كان أشدنا فقلنا:انظر ماذا ترى؟ فخرجٍ ونحن بينه وبين الحرس (معه في مقصورة) فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديدا والمرأة قاعدة؟ فلما قام على باب أجلسه الشيطان وتكلم على لسانه وقال:ما لي ولك يا فيروز؟ فخشي إن رجع أنْ يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقه.. ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله ، فقال:قد قتلته وأرحتك منه ، وخرج فأخبرنا فدخلنا معه فخار كما يخور الثور فقطعت رأسه بالشفرة. وابتدر الحرس المقصورة يقولون ما هذا؟
فقالت المرأة:النبي يوحى إليه فخمدوا، وقعدنا نأتمر بيننا فيروز. وداذويه. وقيس كيف نخبر أشياعنا؟ فاجتمعنا على النداء فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا ففزع المسلمون. والكافرون ، ثم نادينا بالأذان فقلت:أشهد أن محمداً رسول الله. وأنّ عيهلة كذاب. وألقينا إليهم رأسه ، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبياناً كثيرة وانتهبوا فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه ففعلوا، فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلًا فراسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا ففعلنا ولم يظفروا منا بشيء وترددوا فيما بين صنعاء ونجران وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم ، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل وكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره وذلك في حياته وأتاه الخبر من ليلته وقدمت رسلنا وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابنا أبو بكر، قال ابن عمر:أتى الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلته التي قتل فيها فقال:قتل العنسي قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل:من قتله ؟ قال:قتله فيروز.
قيل:كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر، وقيل:قريب من أربعة أشهر،وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة. قال فيروز:لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود فأتى موت النبي صلى الله عليه وسلم فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.
وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم لثلاث خلون من رمضان. وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها، وقيل:توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وقيل:بستة أشهر. وغسلها عليّ وأسماء بنت عميس وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، ودخل قبرها العباس وعليّ والفضل بن العباس. وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق ، وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم رماه به أبو محجن (ودمل الجرح) ثم انتقض عليه فمات في شوال. وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجرد بلاد فارس. وفيه أعني سنة إحدى عشرة اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين.
***
ذكر أخبار الردة
قال عبد اللهّ بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله منّ علينا بأبي بكر أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون ؛ وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين ، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم ، فواللهّ ما رضيَ منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية فأنْ يُقِرُوا بأنّ مَنْ قُتِل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة ، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم ، وأنّ ما أخذوا منا مردود علينا وأما الحرب المجلية فان يخرجوا من ديارهم.
وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وسيّر أبو بكر جيش أسامة ارتدتْ العربُ وتضرمتْ الأرضُ ناراً وارتدتْ كلُّ قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة واجتمع على طليحة عَوَامّ طيىء ، وأسد ، وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن فإنه قال:" نبيُّ من الحليفين - يعني أسداً وغطفان - أحبّ إلينا من نبي من قريش ، وقد مات محمد وطليحة حيٌ فاتبعه وتبعته غطفان ، وقدمتْ رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة وأسد وغيرهما وقد مات فدفعوا كتبهم لأبي بكر وأخبروه الخبر عن مسيلمة وطليحة فقال:لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم ، فكان كذلك وقدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتقاض العرب عامة وخاصة وتسلطهم على المسلمين.
فحاربهم أبو بكر بما كان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم يحاربهم بالرسل فردّ رسلهم بأمره وأتبع رسلهم رسلاً وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة ، فكان عمالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضاعة وكلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي ، وعلى القين عمرو بن الحكم ، وعلى سعد هذيم معاوية الوالبي فارتد وديعة الكلبي فيمن تبعه وبقي امرؤ القيس على دينه ، وارتد زميل بن قطبة القيني وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن اتبعه من سعد هذيم ، فكتب أبو بكر امرىء القيس وهو جد سكينة بنت الحسين فسار بوديعة إلى عمرو فأقام لزميل والي معاوية العذري وتوسطت خيل أسامة ببلاد قضاعة فشن الغارة فيهم فغنموا وعادوا سالمين.
***
ذكر خبر طُلَيْحة الأسدي
وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور عاملًا على بني أسد وأمرهم بالقيامٍ على من ارتد فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه فضربه بسيف فلم يصنع فيه شيئاً فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه ، فكثر جمعه ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فكان طليحة يقول:إن جبريل يأتيني وسَجَعَ للناس الأكاذيب ، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول:" إن الله لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم شيئاً. اذكروا الله ، اعبدوه قياماً " إلى غير ذلك.
وتبعه كثير من العرب عصبيةً، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد، وغطفان ، وطيئ فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة، وأقامت طيئ على حدود أراضيهم ، وأسد بسميراء ، واجتمعت عبس وثعلبة بن سعد ومرة بالأبرق من الربذة ، واجتمع إليهم ناس من بني كنانة. فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت فرقة بالأبرق وسارت فرقة إلى ذي القَصة، وأمدهم طليحة بأخيه حبال فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج ، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة.
فقال أبو بكر:والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه ، وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة (مع الصدقة) وردهم ، فرجع وفدهم فأخبروهم بقلة مَنْ في المدينة، وأطمعوهم فيها، وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على انقاب المدينة علياً، وطلحة، والزبير، وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسي ليكونوا لهم رداء اً فوافوا ليلاً الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم ، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، (فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ففعلوا)، فخرج في أهل المسجد على النواضح فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسي ، فخرج عليهم الردُء بانحاءٍ قد نفخوها و(جعلوا) فيها الحبال ثم دهدهوها (بأرجلهم) على الأرض فنفرت إبل المسلمين ، وهم عليها (ولا تنفر من شيء نفارها من الانحاء) ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلم ، (ولم يصب).
وظن الكفار بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر فقدموا عليهم ، وبات أبو بكر (ليلته يتهيأ) يعبي (1) الناس ، وخرج على تعبئة يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى أهل الساقة سويد بن مقرن (معه الركائب)، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيدٍ واحد، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عَامة ظهرهم وقتل رجال ، وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القَصّة(2)، وكان أول الفتح ، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد ورجع إلى المدينة فذل له المشركون. فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم (كل قتلة، وفعل مَنْ وراءهم فعلهم) فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة وأزداد المسلمون قوة وثباتاً (على دينهم في كل قبيلة ، وازداد لها المشركون انعكاساً من أمرهم في كل قبيلة) وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس ، منهم. صفوان ، والزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة ، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام ، وقيل:كانت غزوته وعوده في أربعين يوماً ، فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم ، ثم خرج فيمن كان معه فناشده المسلمون ليقيم فأبن وقال:" لأواسينكم بنفسي ، وسار إلى ذي حسي وذي القَصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به ، فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيراً ، فطارت عبس وبنو بكر. وأقام أبو بكر بالأبرق أياماً وغلب على بني ذبيان وبلادهم وحماها لدوابّ المسلمين وصدقاتهم. ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة وكان رحل من سميراء إليها فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة.
فلما استراح أسامة وجنده -وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم – قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء، عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة. وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ، ومعونة الابناء على قيس بن مكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم ، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت. وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلى (الحمقتين من) مشارف الشام. وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دَبَا ، وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله. وبعث شرحبيل بن حَسَنة في أثر عكرمة بن أبي جهل وقال:إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة. وعقد لمعن بن جابر وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن. وعقد لسويد بن مُقَرِّن وأمره بتهامة باليمن ، وعقد للعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين. ففصلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده وعهد إلى كل أمير، وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة يأمرهم بمراجعة الاسلام ويحذّرهم ، وسيّر الكتب إليهم مع رسله. ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيىء يأمرهم باللحاق به فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم فقدموا على طليحة وكان أبو بكر بعث عديّ بن حاتم قبل خالد إلى طيىء واتبعه خالداً وأمره أن يبدأ بطىء، ومنهم يسير إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له ، وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالداً يرهب العدو بذلك ، وقدم عدي على طيىء فدعاهم وخوّفهم فأجابوه ، وقالوا له:استقبل الجيش فأخِّرْه عنا حتى نستخرج مَنْ عند طليحة منا لئلا يقتلهم فاستقبل عدي خالداً (وهو بالسنح) وأخبره بالخبر فتأخّر خالد ، وأرسلت طيىء إلى أخوانهم عند طليحة ، فلحقوا بهم فعادت طيىء إلى خالد بإسلامهم ، ورحل خالد يريد جديلة فاستمهله عدي عنهم ، ولحق بهم عدي يدعوهم إلى الإِسلام فأجابوه ، فعاد إلى خالد بإسلامهم ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم ، وكان خير مولود أ ولد) في أرض طيى وأعظمه بركة عليهم.
وأرسل خالد بن الوليد عكَّاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم الأنصاري طليعة فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه فبلغ خبره طليحة، فخرج هو وأخوه سلمة فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتاً ورجعا وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتاً قتيلين فجزع لذلك المسلمون وانصرف بهم خالد نحو طيىء فقال له طيىء:نحن نكفيك قيساً فإنّ بني أسد حلفاؤنا، فقال:قاتلوا أيّ الطائفتين شئتم. فقال عدي بن حاتم:لو نزل هذا على الذين هم أسرتي الأدنى فالأدنى لجاهدتهم عليه ، والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم. فقال له خالد:إنّ جهاد الفريقين جهاد، لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط ، ثم تعبىء لقتالهم ثم سار حتى التقيا على بُزاخة وبنو عامر قريباً يتربصون على من تكون الدائرة؛ قال:فاقتتل الناس على بزاخة، وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالاً شديداً وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم ، فلما اشتدت الحرب كرّ عيينة على طليحة، وقال له:هل جاءك جبريل بعد؟ قال لا. فرجع فقاتل ثم كرّ على طليحة فقال له:لا أبالك أجاءك جبريل ؟ قال:لا. فقال عيينة:حتى متى؟ قد والله بلغ منا. ثم رجع فقاتل قتالاً شديداً ثم كرّ على طليحة فقال:هل جاءك جبريل ؟ قال:نعم. قال:فماذا قال لك ؟ قال قال لىِ:إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة:قد علم الله أنه سيكون حديثٌ لا ننساه ، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب. فأنصرفوا وانهزم الناس ، وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لأمرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال:يا معشر فزارة مَنْ استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل.
ثم انهزم فلحق بالشام ، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسداً وغطفان قد أسلموا ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر، وكان خرج معتمراً (في إمارة أبي بكر) ومر بجنبات المدينة فقيل:لأبي بكر هذا طليحة. فقال:ما أصنع به قد أسلم. ثم أتى عمر فبايعه حين استُخلف فقال له:أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك
أبداً. فقال:يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما. فبايعه عمر وقال له
يا خدع) ما بقى من كهانتك ؟ فقال:نفخة أو نفختان (بالكير) ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق. ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن فقدم به على أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف:يا عدوّ الله أكفرتَ بعد إيمانك ؟ فيقول:والله ما آمنت به طرفة عين فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه ، وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالماً به فسأله خالد عما كان يقول:فقال:إنّ مما أتى به " والحمام واليمان ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام " قال:ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم فلما انهزموا أقروا بالاسلام خشية على عيالاتهم فأمنهم.
ذكر ردة بني عامر ، وهوازن ، وسليم
وكانت بنو عامر تقدِّم إلى الردة رجلًا وتؤخر ، وتنظر ما تصنع اسد، وغطفان ، فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها، وكان أسلم ثمِ ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بالشام بعد فتح الطائف ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعاً حتى عسكر في بني كعب ، فبلغ ذلك أبا بكر فبعث إليه سريّة عليها القعقاع بن عمرو-وقيل:بل قعقاع بن سور- وقال له:لتغير على علقمة لعلك تقتله أو تستأسره. فخرِج (في تلك السرية) حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، وكان لا يبرح !لا مستعداَ فسابقهم على فرسه فسبقهم (مراكضة) وأسلم أهله وولده ، وأخذهم القعقاع ، وقدم بهما على أبي بكر فجحدوا أنْ يكونوا على حال علقمة ، ولم يبلغ أبا بكر عنهم أنهم فارقوا دارهم وقالوا له:ما ذنبنا فيما صنع علقمة؟ فأرسلهم ، ثم أسلم فقبل ذلك منه. وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بُزاخة يقولون:ندخل فيما خرجنا منه ونؤمن بالله ورسوله وأتوا خالداً فبايعهم على ما بايع أهل بزاخة وأعطوه بأيديهم على الاسلام ، وكانت بيعته (عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن باللهّ ورسوله ولتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاةوتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم) فيقولون:نعم ، ولم يقبل من أحد من أسد وغطفان وطىء وسليم وعامر ألا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثّلوا وعَدُوا على الإِسلام في حال رِدَّتِهِم فأتوه بهم فمثّل بهم ، وحرقهم ، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال ، ونكسهم في الآبار، وخزق بالنبال ، وأرسل إلى أبي بكر يعلمه ما فعل ، وأرسل إليه قرة بن هبيرة ونفراً معه موثقيِن وزهير أيضاً. وأما أم زِمل فاجتمع فلال غطفان ، وطيىء ، وسليم ، وهوازن وغيرها إلى أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر وكانت أمها أم قِرفة بنت ربيعة بن بدر، وكانت أم زمل قد سبيت أيام أمها أم قِرفة ، وقد تقدمت النزوة. فوقعت لعائشة فأعتقتها ، ورجعت إلى قومها وارتدت ؛ واجتمع إليها الفل فأمرتهم بالقتال وكثف جمعها وعظمت شوكتها ، فلما بلغ خالداً أمرها سار إليها فاقتتلوا قتالاً شديداً أول يوم ، وهي واقفة على جمل كان لأمها وهي في مثل عزها فاجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها، وقتل حول جملها مائة رجل ، وبعث بالفتح إلى أبي بكر.
وأما خبر الفجاءة السلمي واسمه إياس بن عبد ياليل فإنه جاء إلى أبي بكر، فقال له:أعِني بالسلاح أقاتل به أهلَ الردة. فأعطاه سلاحاً وأمّره أمرة فخالف إلى المسلمين ، وخرج حتى نزل بالجواء وبعث نخبة بن أبي الميثا، من بني الشريد وأمره بالمسلمين ، فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن ، فبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له ويسير إليه ، وبعث إليه عبد الله بن قيس الحاشي عوناً فنهضا إليه وطلباه فلاذ منهما ثم لقياه على الجواء فاقتتلوا، وقتل نخبة، وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره ثم بعث به إلى أبي بكر، فلما قدم أمر أبو بكر أنْ توقد له نارٌ في مُصَلَّى المدينة ثم رمي به فيها مقموطاً(1).
وأما خبر أبي شجرة بن عبد العزى السلمي وهو ابن الخنساء فإنه تهان قد ارتد فيمن ارتد من سليم وثبت بعضهم على الاسلام مع معن بن حاجز وكان أميراً لأبي بكر، فلما سار خالد إلى طليحة كتب إلى معن أنْ يلحقه فيمن معه على الاسلام من بني سليم فسار واستخلف على عمله أخاه طريفة بن حاجز فقال أبو شجرة حين ارتد :
صَحَا القَلْبُ عَنْ مَي هواه وأقْصرا وطاوَعِ فيها العاذلين فأبْصَرا(1)
ألَا أيها المُدْلِي بكَثْرةِ قومه وحَظك منهم أن تُضَامَ وتُقْهَرَا
سَلِ الناسَ عَنّا كل يَوْم كَرِيْهَةٍ إذَا مَا التَقَيْنَا دارِ عِينَ وحُسَّرا
ألسْنَا نُعاطِي ذا الطِّمَاح لًجامَة؟ ونَطْعَن في الهيجا إذا المَوْتُ أقْفَرَا!
فَرَوْيتُ رُمْحِي مِن كَتِيْبَةِ خَالدٍ وإنّي لأرْجُو بعدها أنْ أعمَّرا
ثم إنّ أبا شجرة أسلم ، فلما كان زمن عمر قدم المدينة فرأي عمر وهو يقسّم في المساكين فقال:أعطني فإني ذو حاجة، فقال:ومن أنت ؟ فقال:أنا أبو شجرة بن عبد العزى السلمي. قال:أي عدو الله لا والله ألست الذي تقول ؟
فريت رمحي من كتيبة خالد وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
وجعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه عدوًا إلى ناقته فركبها ولحق بقومه وقال :
ضنّ علينا أبو حفص بنائله وكل مختبط يوماً له ورق
في أبيات(2).
ذكر قدوم عمرو بن العاص من عمان
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل عمرو بن العاص إلى جَيفر عند منصرفه من حجة الوداع فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بعمان ، فأقبل حتى انتهى إلى البحرين فوجد المنذر بن ساوي في الموت ، ثم خرج عنه إلى بلاد بني عامر فنزل بقرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلاً ويؤخر أخري ومعه عسكر من بني عامر فذبح له وأكرم مثواه ، فلما أراد الرحلة خلا به قرة، وقال:يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالاتاوة فإن أعفيتموها مِنْ أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم فقال له عمرو:أكفرتَ يا قرّة؟ أتخوفنا بالعرب ! فوالله لأوطئن عليك الخيل في حفش أمك. والحفش:بيت تنفرد فيه النفساء. وقدم على المسلمين بالمدينة ، فأخبرهم فأطافوا به يسألونه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دَبا إلى المدينة فتفرقوا وتحلقوا حلقاً، وأقبل عمر يريد التسليم على عمرو فمر على حلقة فيها علي ، وعثمان ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن ، وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال:فيم أنتم ؟ فلم يجيبوه. فقال لهم:إِنكم تقولون:ما أخوفنا على قريش من العرب. قالوا:صدقت. قال:فلا تخافوهم إنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم ، والله لو تدخلون معاشر قريش جحراً لدخلته العرب في آثاركم فاتقوا الله فيهم ، ومض عمر، فلما قدم بقرة بن هبيرة على أبي بكر أسيراً استشهد بعمرو على إسلامه ، فأحضر أبو بكر عمراً فسأله فأخبره بقول قرة إلى أن وصل إلى ذكر الزكاة، فقال قرة:مهلاً يا عمرو. فقال:كلا والله لأخبرنه بجميعه فعفا عنه أبو بكر وقَبِل إسلامه.
ذكر بني تميم وسجاح
وأما بنو تميم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق فيهم عماله ، فكان الزبرقان منهم ، وسهل بن مِنجاب ، وقيس بن عاصم ، وصفوان بن صفوان ، وسبرة بن عمرو، ووكيع بن مالك ، ومالك بن نويرة، فلما وقع الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم سار صفوان بن صفوان إلى أبي بكر بصدقات بني عمرو، وأقام قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع ليخالفه ، فقال حين أبطأ عليه الزبرقان في عمله:واويلتاه من ابن العكلية والله (لقد مزقني) ما أدري ما أصنع ؟ لئن أنا بعثت بالصدقة إلى أبي بكر وبايعته لينجزن ما معه قي بني سعد فيسودني فيهم ولئن نجزتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده فقسمها على المقاعس والبطون. ووافى الزبرقان فاتبع صفوان بن صفوان بصدقات الرباب. وهي ضبة بن أد بن طابخة ، وعدي ، وتيم ، وعكل ، وثور بنو عبد مناة بن أد، وبصدقات عوف والأبناء، وهذه بطون من تميم ، ثم ندم قيس (بعد ذلك) فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة. فتلقاه –بها. ثم خرج معه ، وتشاغلت تميم بعضها ببعض ، وكان ثمامة بن أثال الحنفي يأتيه أمداد تميم ، فلما حدث هذا الحديث (1) أضر ذلك بثمامة، وكان مقاتلًا لمسيلمة الكذاب حتى قدم عليه عكرمة بن أبي جهل ، فبينما الناس ببلاد تميم مسلمهم بإزاء من أراد الردة وارتاب إذ جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية، قد أقبلت من الجزيرة، وادعت النبوة وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود.أفناء ربيعة معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وكان نصرانياً فترك دينه وتبعها، وعقبة بن هلال في النمر، وزياد بن فلان في إياد، والسليل بن قيس في شيبان فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم (والتشاغل بما بينهم) وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر فأرسلت الى مالك بن نويرة تطلب الموادعة فأجابها وردّها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم ، فأجابته ، وقالت:أنا امرأة من بني يربوع. فإن كان ملك فهو لكم. وهرب منها عطارد بن حاجب. وسادة بني مالك ، وحنظلة إلى بني العنبر وكرهوا ما صنع وكيع وكان قد وادعها، وهرب منها أشباههم من بني يربوع وكرهوا ما صنع مالك بن نويرة واجتمع مالك. ووكيع. وسجاح ، فسجعت لهم سجاح. وقالت:أعدوا الركاب ، واستعدوا للنهاب. ثم أغيروا على الرباب. فليس دونهم حجاب. فساروا إليهم فلقيهم ضبة وعبد مناة فقتل بينهم قتلى كثيرة وأسر بعضهم من بعض. ثم تصالحوا. وقال قيس بن عاصم:شعراً ظهر فيه ندمه عنى تخلفه عن أبي بكر بصدقته ثم سارتْ سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النباج. فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي في بني عمرو فأسر الهذيل وعقة ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس ، ومن معه ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة، وقالت:عليكم باليمامة. وذفوا ذفيف الحمامة(1). فإنها غزوة صرامه. لا يلحقكم بعدها ملامه. فقصدت بني سنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إنْ هو شغل بها أنْ يغلب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولها على حجر وهي اليمامة فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها فأمنته ، فجاءها في أربعين من بني.حنيفة (وكانت راسخة في علم النصرانية) فقال مسيلمة:لنا نصف الأرض. وكان لقريش نصفها لو عدلت وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش
وكان مما شرع (مسيلمة) لهم أنّ من أصاب ولداً واحداً ذكراً لا يأتي النساء حتى يموت ذلك الولد فيطلب الولد حتى يصيب ابناً ثم يمسك ، وقيل:بل تحصن منها فقالت له:أنزل. فقال لها:أبعدي أصحابك. ففعلت وقد ضرب لها قبة وجمّرها فتذكر بطيب الريح الجماع واجتمع بها. فقالت له:ما أوحى إليك ربك. فقال:ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق (1) وحشى. قالت:وماذا أيضاً؟ قال:ان الله خلق للنساء أفراحِاً وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن إيلاجاً ثم تخرجها إذا تشاء اخراجأ، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً. قالت:أشهد إنك نبي. قال:هل لكِ أن أتزوجكِ واكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت:نعم. قال :
ألَا قُومِي إلى النَّيْك فقد هُيء لك المَضْجَعْ
فإنْ شِئْتِ فَفِي البَيْتِ وإنْ شِئت ففي المخدَعْ
وإنْ شِئْتِ سلقناكِ وانْ شئتِ عنى أرْبَع
وإنْ شئتِ بثلثيْه وإنْ شِئْتِ به أجْمَع
قالت:بل به أجمع فإنه للشمل أجمع. قال:بذلك أوحى إليّ.
فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها فقالوا لها:ما عندك ؟ قالت:كان على الحق فتبعته. وتزوجته. قالوا:هل أصْدَقَكِ شيئاً؟ قالت لا.
قالوا:فارجعي فاطلبي الصداق فرجعت فلما رآها أغلق باب الحصن وقال : مالك ؟ قالت:أصدقني. قال:من مؤذنك. قالت:شبث بن ربعي الرياحي. فدعاه وقال له:ناد في أصحابك أنّ مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فانصرفت ومعها أصحابها، منهم عطارد بن حاجب ، وعمرو بن الأهتم (2) ، وغيلان بن خرشة، وشبث بن ربعي. فقال عطارد بن حاجب : أمست نبيتنا أنثى نطوف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا(1)
وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف ، وتترك عنده من يأخذ النصف فأخذت النصف وأنصرفت إلى الجزيرة. وخلفت الهذيل ، وعقة ، وزياداً لأخذ النصف الباقي فلم يفاجئهم إلا دنو خالد اليهم فارفضوا فلم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة (في زمانه) وجاءت معهم وحسن إسلامهم لإسلامها وانتقلت إلى البصرة وماتت بها، وصلى عليها سَمُرَة بن جندب ، وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولايته البصرة. وقيل:انها لما قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها بذكر.
ذكر مالك بن نويرة
لما رجعت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا فراجعا رجوعاً حسناً ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالداً وسار خالد بعد أنْ فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيىء يريد البطاح (2). وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره وتخلفت الأنصار عن خالد. وقالوا:ما هذا بعهد الخليفة إلينا (إن الخليفة عهد إلينا) إن نحن فرغنا من بزاخة (واستبرأنا بلاد القوم) أن نقيم حتى يكتب إلينا.
فقال خالد:قد عهد إليّ أن أمضي وأنا الأمير، ولو لم يأت كتاب بما رأيته فرصة وكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه (حتى انتهزها) وكذلك لو ابتلينا بامر ليس فيه منه عهد لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، (وهذا مالك بن نويرة بحيالنا) فأنا قاصد إليه ومن معي (من المهاجرين) ولست أكرِهُهُم. ومضى خالد وندمت الانصار وتذامروا وقالوا:إن أصاب القومُ خيراً حرمتموه وإن أصيبوا ليجتنبنكم الناس فلحقوه ؟ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد بها أحداً، وكان مالك بن نويرة قد فرّقهم ونهاهم عن الاجتماع ، وقال:يا بني يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فابطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر فتفرقوا على ذلك.
ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأنْ يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أنْ يقتلوه. وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلاً فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا وإن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم قال فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فنهم. وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد منادياً فنادى " دافئوا أسراكم " وهي في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدِّفْء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكاً ، وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم. فقال:إذا أراد الله أمراً أصابه.
(وقد اختلف القوم فيهم ، فقال أبو قتادة:هذا عملك فزبره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب أبو بكر حتى كلمه عمر فيه فلم يرض إلا أن يرجع إليه فرجع إليه حتى قدم معه المدينة) وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك فقال:هيه يا عمر تأول فاخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم (1) سيفاً سله الله على الكافرين ، وودي مالكاً، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل. ودخل المسجد وعليه قباء (له عليه صدأ الحديد) وقد غرز في عمامته أسهماً فقام إليه عمر فنزعها وحطمها وقال له (أرئاء) قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته ! والله لأرجمنك باحجارك. وخالد لا يكلمه يظن أنّ رأي أبي بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر، واعتذر إِليه فعذره وتجاوز عنه وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهته أيام الحرب. فخرج خالد وعمر جالس فقال:هلم إليّ يا ابن أم سلمة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه.
وقيل:إن المسلمين لما غشوا مالكاً وأصحابه ليلاً أخذوا السلاح. فقالوا:نحن المسلمون ، فقال أصحاب مالك:ونحن المسلمون قالوا لهم:ضعوا السلاح فوضعوه. ثم صلوا. وكان يعتذر في قتله إنه قال:ما أخال صاحبكم إلا قال:كذا وكذا، فقال له:أو ما تعده لك صاحباً؟ ثم ضرب عنقه.
وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ، ويسأله أن يرد عليهم سبيهم ، فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكاً من بيت المال ، ولما قدم على عمر قال له:ما بلغ بك الوجد على أخيك ؟قال:بكيته حولاً حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت ناراً قط إلا كدتُ اتقطع أسفاً عليه لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه. قال:فصفه لي. قال:كان يركب الفرس لا الحرون (1) ويقود الجمل الثَّفال (2) وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة. وعليه شملة فلوت (3) معتقلاً رمحاً خطلاً فيسري ليلته ثم يصبح. وكأن وجهه فلقة قمر. قال:أنشدني بعض ما قلت فيه:فأنشده مرثيته التي يقول فيها :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل:لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
فقال عمر: لو كنتُ أقول الشعر لرثيت أخي زيداً. فقال:متمم ولا سواء يا أمير المؤمنين لو كان أخي صُرع مصرع أخيك لما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به. وفي هذه الوقعة قتل الوليد، وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد وهما ابنا أخي خالد لهما صحبة.
ذكر مسيلمة وأهل اليمامة
قد ذكرنا فيما تقدم مجيء مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وبعث أبوبكر السرايا إلى المرتدين أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حَسَنَة فعجل عكرمة ليذهب بصوتها. فواقعهم فنكبوه ، وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه أبو بكر لا أرينك ولا تراني لا ترجعن فتوهن الناسا، امض إلى حذيفة، وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك لم تستبرئون الناس حتى تلقى مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت. فكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام إلى أن يأتي خالد فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة، فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه فقبل عذره ورضي عنه ووجهه إلى مسيلمة، وأوعب معه المهاجرين والأنصار، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس ، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد بن الخطاب (وعلى القبائل، على كل قبيلة رجل) ، وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث اليه ، فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة ، وبنو حنيفة يومئذ كثيرون ؛ وكانت عدتهم أربعين ألف مقاتل (في قراها وحجرها)، وعجّل شرحبيل بن حَسَنَة (وفعل فعل عكرمة)، وبادر بقتال مسيلمة (قبل قدوم خالد عليه) فنكب أ فحاجز فلما قدم عليه خالد) لأمه خالد وأمد أبو بكر خالداً بسليط ليكون ردءاً له لئلا يؤتى من خلفه (فخرج فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا فهربوا وكان منهم قريباً ردءاً لهم) وكان أبو بكر يقول:لا أستعمل أهل بدر أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم فإنّ الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر وأفضل مما ينتصر بهم ، وكان عمر يرى استعمالهم على الجند وغيره ، وكان مع مسيلمة نهار الرجّال بن عُنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين وبعثه معلماً لأهل اليمامة، وليشغب على مسيلمة (وليشدد من أمر المسلمين) فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ، شهد (له أنه سمع) محمداً صلى الله عليه وسلم يقول:" إنّ مسيلمة قد أشْرِكَ معه "، فصدقوه واستجابوا له ، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره ، وكان يُؤَذَن له عبد اللهّ بن النواجة والذي يقيم له حجير بن عمير فكان حجير يقول:أشهد أنّ مسيلمة يزعم أنه رسول الله. فقال له مسيلمة:افصح حجير. فليس في المجمجة خير. وهو أول من قالها. وكان مما جاء به وذكر أنّه وحي:" يا ضفدع بنت ضفدع نُقَي ما تنقين ، أعلاك في الماء. وأسفلك في الطين. لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين ".وقال أيضاً:" والمبديات زرعاً. والحاصدات حصداً. والذاريات قمحاً والطاحنات طحناً. والخابزات خبزاً. والثاردات ثرداً. واللاقمات لقماً. إهالة وسمناً. لقد فضلتم على أهل الوبر. وما سبقكم أهل المدر، ريفكم (1) فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوِؤه ". وأتته امرأة فقالت:إن نخلنا لسحيق وأن آبارنا لجرز ، فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل هَزمان فسأل نهاراً عن ذلك فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم وأخذ من ماء آبارهم فتمضمض منه. ومجه في الآبار ففاضت ماء اً وأنجبت كل نخلة وأطلعت فسيلاً (2) قصيراً مكمما. ففعل مسيلمة ذلك فغار ماء الآبار ويبس النخل -وإنما ظهر ذلك بعد مهلكه.
وقال له نهار: أمِر يدك عنى أولاد بني حنيفة مثل محمد. ففعل وأمرّ يده على رؤسهم وحنّكهم ، فقرع كل صبي مسح رأسه ، ولثغ كل صبي حنكه -وإنما استبان ذلك بعد مهلكه. وقيل جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال:أشهد أنك الكاذب وأن محمداً صادق ، ولكن كذاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر، فقتل معه يومَ عقرباء كافراً.
ولما بلغ مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء. وخرج إليه الناس وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثاراً لهم في بني عامر، فأخذه المسلمون وأصحابه فقتلهم خالد واستبقاه لشرفه في بني حنيفة، وكانوا ما بين أربعين إلى ستين ، وترك مسيلمة الأموال وراء ظهره. فقال شرحبيل بن مسيلمة:يا بني حنيفة قاتلوا فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات ، وينكحن غير خطيبات ، فقاتلوا عن أحسابكم ، وامنعوا نساءكم. فاقتتلوا بعقرباء، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وكانت قبله مع عبد الله بن حفص بن غانم فقتل فقالوا:نخشى عليك من نفسك. فقال:بئس حامل القرآن أنا إذاً. وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس. وكانت العرب على راياتهم (ومجاعة أسير مع أم تميم في فسطاطها) والتقى الناس وكان أول من لقي المسلمين نهار الرجال بن عنفوة فقتل قتله زيد بن الخطاب ،واشتد القتال ولم يلق المسلمون حرباً مثلها قط ، وانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد فزال خالد عن الفسطاط ودخلوا (الفسطاط) إلى مجاعة وهو عند امرأة خالد وكان سلمه إليها فأرادوا قتلها فنهاهم مجاعة عن قتلها وقال:أنا لها جار (فنعمت الحرة) فتركوها، وقال لهم:عليكم بالرجال فقطعوا الفسطاط ثم إن المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس:بئس ما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ، اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء- يعني المسلمين ، ثم قاتل حتى قتل ، وقال زيد بن الخطاب:لا نحور بعد الرجال والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو أقتل ، فأكَلمُهُ بحجتي ، غضوا أبصاركم ، وعضوا على أضراسكم أيها الناس ، واضربوا في عدوكم ، وامضوا قدماً. (ففعلوا فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عساكرهم)، وقال أبو حذيفة:يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال ؛ وحمل خالد في الناس حتى ردوهم إلى أبعد مما كانوا ، واشتد القتال وتذامرت بنو حنيفة وقاتلت قتالاً شديداً، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين ، وتارة للكافرين ، وقتل سالم ، وأبو حذيفة، وزيد بن الخطاب وغيرهم من أولي البصائر.
فلما رأى خالد ما الناس فيه قال:" امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ، ولنعلم مِن أين نؤتى ". فامتازوا ، وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار وجنبهم المهاجرون والأنصار، فلما امتازوا قال بعضهم لبعض:اليوم يستحي من الفرار فما رؤي يوم كان أعظم نكاية من ذلك اليوم ، ولم يُدْرَ أي الفريقين كان أعظم نكاية غير أنّ القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منهم في أهل البوادي ، وثَبَتَ مسيلمة فدارتْ رحاهم عليه ، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بمن قتل منهم ، ثم برز خالد، ودعا إلى البراز ونادى بشعارهم وكان شعارهم:" يا محمداه " ، فلم يبرز إليه أحد إلا قتله. ودارت رحى المسلمين (وطحنت)، ودعا خالد مسيلمة فأجابه فعرض عليه أشياء مما يشتهي مسيلمة، فكان إذا هَمَّ بجوابه أعرض بوجهه ليستشير شيطانه. فينهاه أن يقبل. فأعرض بوجهه مرة ، وركبه خالد وأرهقه فأدبر وزال أصحابه ، وصَاح خالد في الناس (وقال:دونكم لا تقيلوهم)، فركبوهم فكانت هزيمتهم. وقالوا لمسيلمة:أين ما كنت تعدنا؟ فقال:قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكم:يا بني حنيفة الحديقة الحديقة فدخلوها وأغلقوا عليهم بابها، وكان البَرَاء بن مالك – وهو أخو أسد بن مالك – إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد عليه الرجال ، ثم يبول فإذا بال ثار كما يثور الأسد ؛ فأصابه ذلك فلما بال وثب وقال:إلى أيها الناس ، أنا البَرَاء بن مالك إلىِّ إلف ، وقاتل قتالًا شديداً؛ فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة قال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة. فقالوا: لا نفعل. فقال:والله لتطرحنني عليهم